.قال الفراء:
سورة الحاقة:
{الْحاقّةُ * ما الْحآقّةُ}قوله عز وجل:
{الْحاقّةُ.. ما الْحآقّةُ..}.والحاقة: القيامة، سميت بذلك لأن فيها الثواب والجزاء، والعرب تقول: لما عرفت الحقة منى هربت، والحاقة. وهما في معنى واحد.والحاقة: مرفوعة بما تعجبت منه من ذكرها، كقولك: الحاقة ما هي؟ والثانية: راجعة على الأولى. وكذلك قوله:
{وأصْحابُ الْيمِينِ ما أصْحابُ الْيمِين} و
{القارِعةُ ما الْقارِعةُ} معناه: أي شيء القارعة؟ فما في موضع رفع بالقارعة الثانية، والأولى مرفوعة بجملتها، والقارعة: القيامة أيضا.
{سخّرها عليْهِمْ سبْع ليالٍ وثمانِية أيّامٍ حُسُوما فترى الْقوْم فِيها صرْعى كأنّهُمْ أعْجازُ نخْلٍ خاوِيةٍ}وقوله:
{سخّرها عليْهِمْ سبْع ليالٍ وثمانِية أيّامٍ حُسُوما..}.والحسوم: التِّباع إذا تتابع الشيء فلم ينقطع أوله عن آخره، قيل فيه: حسوم، وإنما أُخذ- والله أعلم- من حسم الداء إذا كُوى صاحبُه؛ لأنه يكوى بمكواةٍ، ثم يتابع ذلك عليه.
{فهلْ ترى لهُم مِّن باقِيةٍ}وقوله:
{فهلْ ترى لهُم مِّن باقِيةٍ..}. من بقاءٍ، ويقال: هل ترى منهم باقيا؟، وكل ذلك في العربية جائز حسن.
{وجاء فِرْعوْنُ ومن قبْلهُ والْمُؤْتفِكاتُ بِالْخاطِئةِ}وقوله:
{وجاء فِرْعوْنُ ومن قبْلهُ..}.قرأها عاصم والأعمش وأهل المدينة:
{ومن قبله}، وقرأ طلحة بن مصرِّف والحسن، أو أبو عبد الرحمن- شكّ الفراء ـ:
{ومن قِبلهُ}، بكسر القاف. وهى في قراءة أبىّ:
{وجاء فِرْعوْنُ ومن معه}، وفى قراءة أبى موسى الأشعرى:
{ومن تِلْقاءه}، وهما شاهدان لمن كسر القاف؛ لأنهما كقولك: جاء فرعون وأصحابه. ومن قال: ومن قبْلهُ: أراد الأمم العاصين قبله.وقوله:
{والْمُؤْتفِكاتُ بِالْخاطِئةِ..}.الذين ائتفكوا بخطئهم.
{فعصوْاْ رسُول ربِّهِمْ فأخذهُمْ أخْذة رّابِية}وقوله:
{فأخذهُمْ أخْذة رّابِية..}.أخذة زائدة، كما تقول: أربيت إذا أخذ أكثر مما أعطاه من الذهب والفضة، فتقول: قد أربيت فربا رِباك.
{لِنجْعلها لكُمْ تذْكِرة وتعِيهآ أُذُنٌ واعِيةٌ}وقوله:
{لِنجْعلها لكُمْ تذْكِرة..} لنجعل السفينة لكم تذكرة: عظة.وقوله:
{وتعِيهآ أُذُنٌ واعِيةٌ..}.يقول: لتحفظها كل أذن؛ لتكون عظة لمن يأتى بعد.
{وحُمِلتِ الأرْضُ والْجِبالُ فدُكّتا دكّة واحِدة}وقوله:
{وحُمِلتِ الأرْضُ والْجِبالُ فدُكّتا..}ولم يقلْ: فدككن؛ لأنه جعل الجبال كالواحد وكما قال:
{أنّ السّماواتِ والأرْض كانتا رتْقا} ولم يقل: كنّ رتقا، ولو قيل في ذلك: وحملت الأرض والجبال فدكّت لكان صوابا؛ لأن الجبال والأرض كالشيء الواحد.وقوله:
{دكّة واحِدة..}.ودكُّها: زلزلتها.
{وانشقّتِ السّماءُ فهِي يوْمئِذٍ واهِيةٌ}وقوله:
{وانشقّتِ السّماءُ فهِي يوْمئِذٍ واهِيةٌ..} وهْيُها: تشققها.
{والْملكُ على أرْجآئِهآ ويحْمِلُ عرْش ربِّك فوْقهُمْ يوْمئِذٍ ثمانِيةٌ}وقوله:
{ويحْمِلُ عرْش ربِّك فوْقهُمْ يوْمئِذٍ ثمانِيةٌ..} يقال: ثمانية أجزاء من تسعة أجزاء من الملائكة.
{يوْمئِذٍ تُعْرضُون لا تخْفى مِنكُمْ خافِيةٌ}وقوله:
{لا يخْفى مِنكُمْ خافِيةٌ..}.قرأها يحيى بن وثاب بالياء، وقرأها الناس بعد- بالتاء-
{لا تخفى}، وكلٌّ صواب، وهو مثل قوله:
{وأخذ الذين ظلمُوا الصّيْحةُ}. وأخذت.
{فأمّا منْ أُوتِي كِتابهُ بِيمِينِهِ فيقول هآؤُمُ اقْرؤُاْ كِتابيهْ}وقوله:
{فأمّا منْ أُوتِي كِتابهُ بِيمِينِهِ..}.نزلت في أبى سلمة بن عبد الأسد، كان مؤمنا، وكان أخوه الأسود كافرا، فنزل فيه:
{وأمّا منْ أُوتِي كِتابهُ بِشِمالِهِ..}.
{إِنِّي ظننتُ أنِّي مُلاقٍ حِسابِيهْ}وقوله:
{إِنِّي ظننتُ أنِّي مُلاقٍ حِسابِيهْ..} أي: علمت، وهو مِن علم ما لا يعاين، وقد فسِّر ذلك في غير موضع.
{فهُو فِي عِيشةٍ رّاضِيةٍ}وقوله:
{فِى عِيشةٍ رّاضِيةٍ..}فيها الرضاء، والعرب تقول: هذا ليل نائم، وسر كاتم، وماء دافق، فيجعلونه فاعلا، وهو مفعول في الأصل، وذلك: أنهم يريدون وجه المدح أو الذم، فيقولون ذلك لا على بناء الفعل، ولو كان فعلا مصرحا لم يُقل ذلك فيه، لأنه لا يجوز أن تقول للضارب: مضروب، ولا للمضروب: ضارب؛ لأنه لا مدح فيه ولا ذم.
{ياليْتها كانتِ الْقاضِية}وقوله:
{ياليْتها كانتِ الْقاضِية..}.يقول: ليت الموتة الأولى التي منها لم أحى بعدها.
{ثُمّ فِي سِلْسِلةٍ ذرْعُها سبْعُون ذِراعا فاسْلُكُوهُ}وقوله:
{ثُمّ فِي سِلْسِلةٍ ذرْعُها سبْعُون ذِراعا فاسْلُكُوهُ...}.ذكر أنها تدخل في دبر الكافر، فتخرج من رأسه، فذلك سلْكُه فيها. والمعنى:ثم اسلكوا فيه سلسلة، ولكن العرب تقول: أدخلت رأسى في القلنسوة، وأدخلتها في رأسى، والخاتم يقال: الخاتم لا يدخل في يدى، واليد هي التي فيه تدخل من قول الفراء.قال أبو عبد الله محمد بن الجهم: والخف مثل ذلك، فاستجازوا ذلك؛ لأن معناه لا يُشكل على أحد، فاستخفوا من ذلك ما جرى على ألسنتهم.
{ولا طعامٌ إِلاّ مِنْ غِسْلِينٍ}وقوله:
{ولا طعامٌ إِلاّ مِنْ غِسْلِينٍ...} يقال: إنه ما يسيل من صديد أهل النار.
{ولوْ تقول عليْنا بعْض الأقاوِيلِ * لأخذْنا مِنْهُ بِالْيمِينِ}وقوله:
{ولوْ تقول عليْنا بعْض الأقاوِيلِ...} يقول: لو أن محمدا صلى الله عليه تقول علينا ما لم يؤمر به
{لأخذْنا مِنْهُ بِالْيمِينِ...}، بالقوة والقدرة.
{فما مِنكُمْ مِّنْ أحدٍ عنْهُ حاجِزِين}وقوله:
{فما مِنكُمْ مِّنْ أحدٍ عنْهُ حاجِزِين...}.أحد يكون للجميع وللواحد، وذكر الأعمش في حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
«ألم تحل الغنائم لأحد سُودِ الرءوس إلاّ لنبيكم صلى الله عليه وسلم»، فجعل: أحدا في موضع جمع. وقال الله جل وعز:
{لا نُفرِّقُ بيْن أحدٍ مِنْهُمْ} فهذا جمع؛ لأنّ بين- لا يقع إلاّ على اثنين فما زاد. اهـ.
.قال بيان الحق الغزنوي:
سورة الحاقة:
{الحاقة[1]} فاعلة من الحق، وهي القيامة التي يحق فيها الوعد والوعيد.
{وما أدراك ما الحاقة} [3] إذ لم يكن هذا الاسم في لسانهم. أو معناه: إنك لا تدري ما يكون في الحاقة.
{بالقارعة} [4] بالقيامة، لأنها تقرع القلوب بالمخافة.
{بالطاغية} [5] بالصيحة العظيمة، كقوله تعالى:
{طغا الماء}، أي: عظم ارتفاعه، وجاوز حده، ومنه الطغيان في مجاوزة الحد.
{حسوما} [7] متتابعة، من حسم الكي: إذا تابعت عليه بالمكواة. وعن مقاتل: قاطعة أدبارهم، فيكون التقدير: تحسمهم حسوما.
{خاوية} [7] ساقطة. خوى النجم سقط في المغرب.
{من باقية} [8] مصدر، أي: من بقاء.وقيل: تقديره: من نفس باقية.
{ومن قبله} [9] ومن يليه من أهل دينه. قال سيبويه: هو لما ولي الشيء. تقول: ذهب قبل السوق، ولي قبله حق. ونصبه على ظرف المكان.
{والمؤتفكات} [9] المنقلبات بالخسف.
{رابية} [10] زائدة.
{وتعيها أذن واعية} [12] اي: حملناكم في السفينة، لأن نجعلها لكم تذكرة، ولأن تعيها، فلما توالت الحركات، اختلست حركة العين، وجعلت بين الحركة والإسكان.
{ثمانية} [17] أي: ثمانية صفوف، أو ثمانية أصناف.
{فأما من أوتي كتابه بيمينه} [19] العرب تجعل اليمين للمحبات والمسار، والشمال بخلاف ذلك. قال:
أبيني أفي يمنى يديك جعلتني ** فأفرح أم صيرتني في شمالكوقال ابن ميادة:
ألم تك في يمنى يديك جعلتني ** فلا تجعلني بعدها في شمالكا{هاؤم اقرءوا كتابيه} [19] أي: خذوا، تقول للمذكر: هاء بفتح الهمزة، وفي التثنية: هاؤما، وفي الجميع: هاؤم، وللمرأة: هاء بكسر الهمزة، وهاؤما كالمذكرين، وللنسوة: هاؤن، وفيه لغات أخر يلطف عنها هذا الكتاب.
{ظننت أني ملاق حسابيه} [20] ظننت أن الله يؤاخذني بذنوبي فعفا عني.
{عيشة راضية} [21] ذات رضى، كقولهم: ليل دائم، وماء دافق، وامرأة طامث وطالق.
{يا ليتها كانت القاضية} [27] أي: موتة لا بعث بعدها.
{هلك عني سلطانيه} [29] ما كان من تسليط على نفسه. ومثل هذه الهاءات لبيان الحركة، قول عبد الله بن قيس الرقيات:
إن الحوادث بالمدينة قد ** أوجعنني وقرعن مروتيهوجببنني جب السنام فلم ** يتركن ريشا في مناكبيه{حميم} [35] صديق، وهو الذي إذا أصابك مكروه احترق لك.
{غسلين} [36] على وزن فعلين، غسالة جروحهم وأجوافهم. وقيل: إنه العرق والصديد. وفي معناه قال الطرماح:
يبل بمعصوم جناحي ضئيلة ** أفاويق منها هلة ونقوعوقال آخر:
وليس بها ريح ولكن وديقة ** يظل لها الساري يهل وينقع{إنه لقول رسول} [40] أي: تلاوته، أي: محمد صلى الله عليه.
{لأخذنا منه باليمين} [45]أي: لقطعنا منه يمينه. وقيل: لأخذنا منه بالقوة القاهرة. وقيل: لأخذنا منه بالحق، وبذلك يفسر بيت الشماخ:
إذا بلغتني وحملت رحلي ** عرابة فاشرقي بدم الوتينإذا ما راية رفعت لمجد ** تلقاها عرابة باليمينأي: بالاستحقاق. والوتين: عرق بين العلباء والحلقوم، كما في شعر الشماخ.تمت سورة الحاقة. اهـ.
.قال الأخفش:
سورة الحاقة:
{لِنجْعلها لكُمْ تذْكِرة وتعِيهآ أُذُنٌ واعِيةٌ}قال:
{وتعِيهآ أُذُنٌ واعِيةٌ} لأنك تقول: (وعتْ ذاك أذُنِي) و(وعاهُ سمْعِي) و(أوْعيْتُ الزاد) و(أوْعيْتُ المتاع) كما قال الشاعر: من البسيط وهو الشاهد الحادي والسبعون بعد المئتين:
الخيْرُ يبْقى وإِنْ طال الزّمانُ بِهِ ** والشرُّ أخْبثُ ما أوْعيْت مِنْ زادِ{فإِذا نُفِخ فِي الصُّورِ نفْخةٌ واحِدةٌ}وقال:
{فإِذا نُفِخ فِي الصُّورِ نفْخةٌ واحِدةٌ} لأن الفعل وقع على النفخة اذا لم يكن قبلها اسمٌ مرْفوع.
{والْملكُ على أرْجآئِهآ ويحْمِلُ عرْش ربِّك فوْقهُمْ يوْمئِذٍ ثمانِيةٌ}وقال:
{والْملكُ على أرْجآئِهآ} وواحدها (الرّجا) وهو مقصور.
{ولا طعامٌ إِلاّ مِنْ غِسْلِينٍ}وقال:
{إِلاّ مِنْ غِسْلِينٍ} جعله- والله أعلم- من (الغسْل) وزاد الياء والنون بمنزلة (عُفْرِين) و(كُفْرِين).
{فما مِنكُمْ مِّنْ أحدٍ عنْهُ حاجِزِين}وقال:
{فما مِنكُمْ مِّنْ أحدٍ عنْهُ حاجِزِين} على المعنى لأن معنى
{أحد} معنى جماعة. اهـ.